Translate

الثلاثاء، 1 يناير 2019

الحداثة من هدم البناء إلى كشف الحقيقة قراءة نقدية لمحمد الملواني

" الحداثة من هدم البناء إلى كشف الحقيقة في أفق البحث عن حياة فضلى  "
قراءة نقدية لمحمد الملواني في ديوان الشاعرة جميلة محمد .
يعرف جابر عصفور الحداثة "بأنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسيا واجتماعيا وثقافيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج
يأخذ مفهوم الحداثة La modernité مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة. وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية هامة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده.
وبعيدا عن التوظيفات الساذجة والشائعة لمفهوم الحداثة، التي تختزله إلى صيرورته الزمنية الراهنة، حيث يجري الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، يمكن القول إن الحداثة هي غير بعدها الزمني، إنها مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني .
بين الحداثة والتحديث:
يعد الفصل بين مفهومي الحداثة والتحديث مدخلا منهجيا لتعريف الحداثة بصورة علمية. وغالبا ما يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدودا فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث. وعلى الرغم من هذا الترسيم العلمي يلاحظ هذا التداخل الكبير بين المفهومين . فغالبا ما يجري استخدام مفهوم تحديث للدلالة على الحداثة وعلى خلاف ذلك كثيرا ما يستخدم مفهوم الحداثة للإشارة إلى ظاهرة التحديث.
وفي وصف طابع هذه الإشكالية يقول محمد محفوظ: "يبدو أن مصطلح الحداثة وكأنه نص مفتوح على كل مضامين التقدم المعاصر، بحيث أنك لا تفرق بشكل صارم بين مضمون مصطلح الحداثة وبين مضامين مفاهيم التحديث والتقدم والعصرنة أو الجديد. ويمتد التداخل ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف بما فيها الشعر .
كان لزاما هذا الاستهلال لأبين التحول الذي طرأ على بنية النص الشعري باعتبار ه مظهرا من مظاهر الحداثة ، فلهذا فالنص الشعري بهذا المفهوم شعر بملء الفم .
يقول الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي : " لا يمكنني أن أتعامل مع نص من النصوص إلا إذا وافق هواي ومزاجي الخاصين "
أردت أن أفتتح قراءتي بهذه القولة لأبين أن الذوق أول ما يثير انتباه الناقد أو المتعامل مع النصوص أيا كان جنسها ، وعملية الذوق هي التي تولد العلاقة التفاعلية بين الذات والنص بعيدا عن صاحب الأثر الفني ، وعندما يتحقق الذوق ننتقل إلى الضوابط التي يجب أن تتحقق في الأثر حسب الجنس الأدبي ليمكننا أن نصدر أحكاما تطمئن إليها النفوس وتأخذ بها .
الانطباع حاصل بمعنى تربطني بنصوص الشاعرة جميلة محمد علاقة المتتبع والمستمع والمتذوق خاصة وأننا نلتقي في الأمسيات الشعرية ناهيك عن الاهتمام والتتبع عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهذا من شأنه أن يسمح لي بتقديم أحكام موضوعية تلامس جوانب الموضوعية إن لم نقل الموضوعية .
فما الشعر عند الشاعرة جميلة محمد؟ هو في الحقيقة ثورة على القديم، و  هم يستمد أغراضه من الواقع المعيش فتلفه في صورة شعرية دون أن يفقد معالمه الفنية  البارزة ، فالإبداع هو نقل الصورة من الواقع إلى صورة ذهنية ومن ثم إلى صورة لفظية ، وهنا أقصد الرسم أي الكتابة ، وكثير من الشعراء والشواعر في عملية الانتقال والتحول في أبعادها الثلاثية قد يفقد الحدث الحسي الانفعالي وقائعه عندما يلبس الشاعر أو الشاعرة لبوس الرمزية ويوغل فيها خاصة أن الحداثة ارتبطت في ذهن المتتبعين الحقل الثقافي   وخاصة الشعر بالرمزية وتوظيف الأسطورة .
وهنا نطرح سؤالا وجيها ما الحداثة عند الشاعرة جميلة محمد ؟
عندما قرأت ديوان "حقائب الأوجاع " توقفت كثيرا عند بناء النصوص ، وهي اعتمدت نظام الأسطر المنثورة ، وإذا كان النثر غير النظم، فمن أين تستمد نصوص الشاعرة شاعريتها ؟.
وهنا نحد الشاعرة تحررت من جميع القيود الضابطة للنص الشعري على مستوى البناء وانشغلت بالصورة الشعرية في جماليتها وحبكتها وإشراقها ... وسعة أفقها باسطة العنان للعلاقات التفاعلية بين المعاجم ، فالمعاجم متآلفة ، وليست متنافرة ، والجمل ملائمة بسيطة سلسة في تركيبها ، عميقة الدلالة في إحالتها ، وفي زحمة هذه الحلحلة تبحث عن الحقيقة وهي تتأمل الوجود من حيث هو موجود فاعلة فعلها وكأنها تنفخ في نصوصها ما ينبغي أن يكون من جمال وإشراق ومحبة ...
 نقرأ للشاعرة نصوصا نستطيع أن نستوعب الرسالة التي جاء الشعر لدى جميلة محمد من أجلها باعثا الروح المدوية التي ترج الساكن فينا .
وكما تعرفون جميعا لكل نص ظروفه ، وظروف الكتابة في ديوان " حقائب الأوجاع " متنوعة وممتدة تلامس الأوجاع التي تشغل المبدعة
وبالعودة إلى ديوان حقائب الأوجاع من حيث بناؤه وتركيبه ، نلاحظ أن الشاعرة وظفت في العنوان تركيبا إضافيا فالحقائب أضيفت إلى الأوجاع ، وفائدة الإضافة عموما عند النحاة : التعريف والتخصيص والتخفيف ، أما من حيث الدلالة فالحقائب أضيفت إلى الأوجاع ، تركيب صدره جاء جمعا ، وعجزه أتى جمعا ، وكأن الحقيبة الواحدة لا تكفي ، فاستعارت الحقائب في صيغة جمع التكسير ، وهو كل جمع تكسرت صورة بناء مفرده ، فما الذي تكسر في الديوان ؟ أو في تلك الطاقة الفاعلة فعلها في الكتابة ؟،
إنها الأوجاع التي لا تكفيها حقيبة واحدة ، ومن هنا نستقرئ أن الشاعرة جميلة محمد تحمل أوزار من تكتب من أجلهم ، إنها سيزيف زمانها تحمل صخرة الأوجاع، فتصبح هذه الصخرة باعثا على قول الشعر  ، قصائد توثق من خلالها تجربة شعرية مليئة بالإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر  بل تجاه الآخرين ، تتوجع لوجعهم وتئن لأنينهم ، وتتضرع خاشعة عسى أن يخفف الله حملهم ...
إنها العلاقة بين الهوى والهوى فهي التي تهوى حب الناس فتهوي في جوف القصيدة منشغلة بآمالهم وآلامهم ...
فالفعل فعلان : هوى يهوى ، وهوى يهوي
هذا هو الحب الإنسي الذي نجده بين دفتي ديوان الشاعرة جميلة محمد.
أما صدر اللوحة فهو وثيقة تاريخية للدمار والخراب بفعل الحروب ، وفوق هذه الوثيقة اسم الشاعرة وبيان الجنس الأدبي : " ديوان شعر "
وعلى ظهر الغلاف صورة للشاعرة ومقتطف من قصيدة برلمان الطفل .
عجيب أن تعالج الهدم بسواعد برلمان الطفل وكأنها فقدت الثقة بغير الأطفال. 
وما يثير الانتباه وأنا أتصفح ديوان الشاعرة وجدتها قد صدرته بقصيدة عنوانها : برلمان الطفل " وهذا التصدير له دلالته في المجال الإنساني ذي البعد الحقوقي . إنها تحمل الطفل المسؤولية وتريده أن يكون عنصرا فاعلا متفاعلا مع المحيط بقضاياه التي لاشك أن تنير له الطريق ليضع لنفسه منذ الصغر موطئ قدم صلبة في مجتمع الغلبة  فيه للأقواء ، إنها ترى في الأطفال رجالا يجب أن نعدهم الإعداد الأمثل لمواجهة الإشكاليات والمعضلات، إنها تدفع بهم إلى المشاركة والبحث عن أفكار جديدة لبناء مجتمع المعرفة في وقت عجز فيه الآخرون ...
تقول الشاعرة جميلة محمد في قصيدة برلمان الطفل الصفحة :11
في برلمان طفلنا العربي
الأطفال كلهم جرحى
من كل قطر
يحملون حقائب الأوجاع وقضايا ...
تنحني لها
قمم الجبال جزعا
طفلنا يا سادة:
لا يبتسم
لا يلعب
...... إلى أن تقول
طفلنا يا سادة
منذ اللحظة
أخ كبير
وأب
يعرج 
يبكي
 يصيح
نجد الشاعرة تفعل فعلها فتصير الطفل شيخا ، هي هنا تتحدث عن كل الأطفال وان خصت أطفال غزة ...
الطفولة في أوطان عالم الشاعرة شاخت ، الطفل خلق ليلعب ، واللعب هنا بمفهومه الايجابي ولكننا نجد الطفل في برلماننا جريح يحمل حقائب الأوجاع كما حملتها الشاعرة ، طفل لا يبتسم و لا يلعب
هو حال تخر له الجبابرة ساجدين . أطفالنا شاخوا قبل الأوان طفولة تبكي وتعرج وتصيح ...
الطفولة مرحلة عمرية دستورها اللعب ،والتعلم من خلال اللعب ، الأطفال زينة الدنيا ، ولكننا نحملهم ديون خيباتنا ، وننتظر منهم أن يؤدوا  هذه الضريبة ، الثمن غال ولكن الشاعرة ترى في الطفولة تلك الشعلة التي يمكنها أن تضيء الظلمة التي نعيشها.
تقول الشاعرة جميلة محمد في قصيدة " بكاء القدس " ص :19
تحت المطر الأسود ترقدين
غاليتي بين نارين
عارية الرأس حافية القدمين
أحرائق العدى ترقبين .ا.ا؟
بتوجس وتصرخين
إلى أين تركضين ؟
قد باعوك تبرؤوا منك ...
وهي تكتب هذا النص لا شك أنها تفاعلت مع قضايا العروبة وهي تستغرب من حال هذه الأوطان اللواتي بعن القضية بأبخس الأثمان ، وكأن القدس ترقد تحت المطر الأسود ، إنه التشاؤم في صورة اختارت لها الشاعرة المطر الأسود الذي لا يرجى من ورائه خصب ولا حياة جديدة،
لا بعث اليوم بعد هذا السواد، لقد تعبت القدس بالركض وهي تنشد عالم 
الاستقلال والحرية والإحساس بالانتماء ، ولكن إلى أين ؟ أين المسير ؟
الطريق وعر طويل يعج بالوحل الأسود .

وهي تعبر عن هذه الخيبات استعملت الشاعرة تعجبا أتى في صورة استفهام ، والاستفهام طلب معرفة شيء لم يكن معروفا عند السائل ، أما التعجب فهو استعظام فعل فاعل لخفاء سره ... اجتمع الاستفهام والتعجب فضاعت القدس بين هذا وذاك .
تقول الشاعرة جميلة محمد في قصيدة بعنوان " احبك وطني " ص 46
احبك يا وطني كل يوم أكثر
احبك كما أنت ولا أكثر
يا عشقي الحلال يا وطني الكبير
يا وطن السلام والجمال والجلال
احبك وطني كل يوم أكثر
كما أنت ولا أكثر
من خلال القصيدة تظهر الشاعرة قوة الإحساس بالانتماء إلى الوطن ، حب سرمدي لا حدود له حب الأشياء كما هي ، تعشق في الوطن القيم الإنسانية السلام والجمال والجلال ... هي علاقة تفاعلية بين الحب والعشق ، والعشق خلاف الحب ، نلاحظ أنه حب يتدرج فيسمو إلى عتبات العشق . وفي هذا النص نجد تأثير بعض الشعراء المحدثين على أسلوب الشاعرة إنها تستحضر روح محمود درويش من خلال قصيدته " تكبر ...تكبر .
كما أقر على أنها تناولت في ديوانها مرحة مهمة من تاريخ المغرب فقدت صورا توثق من خلالها الحركة الوطنية التي خاضها المغاربة في سعيهم بحثا عن الحرية والاستقلال فعلا كان الثمن غال ولكن الحرية أغلي  ، الاستعمار لم يستطع كسر إرادة الشعوب ...
حب بطعم النصر ، وعنفوان جبال الأطلس التي تعانق عنان السماء شاهدة حية على ذاك الرباط المتين الذي لا ينفصم ...
تقول الشاعرة جميلة محمد في قصيدة بعنوان :" رواية عشق " ص :54
حبك أجمل رواية عشق يا بلادي
اخرجي بالأعلام اليوم عيدك عيدي
افرحي يا رمالي ، ويا ترى غاليا
ارفعي الصوت وانشدي
زغردي يا أمواج المحيط العاتيات واهتفي
وهي الشاعر التي تتحول إلى ساردة تروي قصة عشق بين الذات والأرض الطيبة ، البطل في القوى الفاعلة الضمير الجمعي .
والملاحظ عموما أن الشاعرة خصصت نصف ديوانها وما يزيد في حب الوطن وحب الأرض، الأرض العربية ، وما تبقى تفرق بين حب القهوة والتأمل وهي ترتشف من جوانب الكأس روايات طيور الحب وعلاقتها بالمرآة ، وتختم عناوين قصائدها بنفحة تشاؤمية حينما تقول: " فات الأوان " والقهوة لازالت وفية .
أما من حيث الأسلوب أقف  فيه على التحول والحركية من خلال توظيف الأفعال وأساليب النداء والتعجب وفي زحمة هذه الحركية تنقلنا إلى الثابت والساكن من خلال توظيف الأسماء بعيدا عن المشتقات .
هو أسلوب يسلمك نفسه بطريقة جمالية يشدك إلى غرض النص شدا على غير ما ألفناه وتعودناه ، خاصة وأن النصوص الشعرية الحداثية اشتهرت بالغموض واللبس وتجريد المعنى ...
محمد الملواني


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق