Translate

الثلاثاء، 26 يونيو 2018

قراءة نقدية في ديوان " وجع النخيل " للأستاذ محمد الملواني



قراءة نقدية في ديوان " وجع النخيل "
للشاعر الأستاذ إدريس زايدي
اخترت لها عنوانا : التجني والتبني في شعر إدريس زايدي
بيبيوغرافيا الديوان "وجع النخيل " للشاعر الأستاذ إدريس زايدي ، الديوان يتكون من أربع وعشرين ومائة صفحة ، يتصدره معلومات عامة عن المحافظة على الأمانة العلمية كالمؤلف ونوع الجنس الأدبي وعنوانه ولوحة الغلاف ، والطبعة " 2015" ، والايداع القانوني .
ثم جاء الإهداء اعترافا بالفضل إلى من كانت  الباعث على النظم ومن ثمة اصدار الديوان ، هي التي منحته القدرة على الكلام ، وعلمته أن يشرح صدره في حروف ، هي أم خولة التي قالت يوما : سأسمي نحرك أيوب .
وأيوب هنا يرمز الى الصبر ، فالشعر يأخذ من الشاعر وقته ويبعده عن الواقع ... لأنه بطبعه يعدو عصره ناشدا  ما ينبغي أن يكون ، يطلب عالما مثاليا مفعما بالقيم الانسانية الكونية . ما أصعب أن يشارك الإنسان حياة شاعر .ا ، وخاصة إن كان من طينة إدريس زايدي الرجل المبدع الذي لا يشغله عن الشعر شاغل .
فإدريس زايدي يقول : " وما كتبت الشعر لأشقى  ، ولكن عذاب الحرف شديد " وبهذا المعنى يكون الشعر شقاء وتجنيا . وفي زحمة هذا الشقاء والتجني يبحث المبدع عن ماهيته وهو يداعب لعبة العقل والجنون ، لعب يرقى بصاحبه إلى درجات الارتقاء بالبنيات اللغوية ذات البعد الإيقاعي والصور الشعرية ...
يقول الشاعر إدريس زايدي :ص 07
ذاك الشعر يلزمني عتابا،
فاخلع عينيك ،
كي تراني ترابا ،
ولا تقرأ ما تيسر منه غيابا.
هي حروف تبرزخت بينه وبينه كي تشرك ممشانا قصيدا ونحن في الطريق إلى وجع النخيل .
وجع النخيل ديوان شعر يضم بين ثناياه إحدى وثلاثين قصيدة تصدرها بالعمودي وذيلت به ، وجوفها جاء في البنية المتكسرة التي طغت على الديوان :
عناوين النصوص :
وجع النخيل – صهيل نخلة – شموخ – تقمصت الصمت – نار الآلهة – ابتسامة مهملة – قفص – ذروه في سنبله – شطحات -  تحدثني الشمس – وشم على هام الأطلس – مساءات عربي – كبرياء – كف الريح – أصيلا – وأنت هناك – سقوط الذاكرة – وجه بابل – ألف الشعراء – كم – من أعالي طنجيس – ألملم فيك الرؤى – عذق الثمر – في جوف العتمة – ودعت أفراسك – صوت القاهرة – أرتب ألحاني – دم الكذب – وحكت لنا الأرض – خصام – شوق –
هي نصوص تعددت وفي هذا التعدد نجد قاسما مشتركا يجعل من الديوان وحدة متكاملة ، إنه الصهيل والشموخ ونار الآلهة والكبرياء والأصالة والشوق والخصام ...
عناوين يمكن تجميعها في نص له بعنوان " ألف الشعراء " حين نجد الشاعر يستجدي الطبيعة بكل مظاهرها، فالمحيط بعظمته وجلاله ،والريح بنسيمه ، والماء بإشراقه الطهور ... الشعر عند إدريس ينساب في جوف الطبيعة وهو يقتص منها مظاهر الجمال، فتستجيب له القصيدة طائعة ، يقول الشاعر إدريس زايدي ، ص 71
وهذا الهواء
يفوح برقراقه
بين حرف المحيط
يمزق أشرعة الماء
عينا بعين
1/العتبات
عتبة العنوان :
جاء العنوان : وجع النخيل " تركيبا إضافيا ، وفائدته عموما التعريف والتخصيص والتخفيف ، عرف وخص الوجع بالنخيل ، إنه جسد النخل وجعله ينفعل يتألم ويتوجع كحال الشاعر الذي لا ترضيه محنة هذه الأرض ، الأرض الولود تلد عدقا مذاقه حلو كحلاوة نصوص الشاعر إدريس الزايدي .
أما معجم النخيل ، تعد النخلة سيدة الأشجار والصحراء ورمزاً للحياة والعطاء والبقاء والوجود وهي من أكثر الأشجار وروداً في ذاكرة الشعر العربي القديم والحديث.
الإنسان إبن بيئته عاش تحت النخلة ،وأكل من ثمرها، واستظل بظلها، واستخدم جذوعها أعمدة لبيته، ومنها غذاءه ودواءه وفراشه وطعام دابته ، رافقها في عصوره المختلفة. فهي تعطي الإنسان كل ما يحتاجه .  فقد قدستها الأمم القديمة وجعلتها رمزاً للبقاء كما عند البابليين والفراعنة ، فمن يقرأ الأدب العربي يجد أن النخلة استعملت رمزاً لتعميق الدلالة الإيحائيه في الأعمال الأدبية ، ومن عجيب الصورة الفنية أن النخلة  وظفت رمزا للمرأة في الشعر العربي الفصيح والشعبي رغم البعد الزمني بينهما.
والشاعر إدريس زايدي لم يخرج عن هذا العرف ، فأنزل النخلة منزلة سبقه إليها غيره، إنه الموروث الثقافي ، وفعل التأثير والتأثر ، خاصة وأن إدريس زايدي متشبع بالثقافة القديمة دون أن ينسى حقه من الحديث .
وأنا أقرأ له استحضرت الشاعر الكبير الذي كانت تبنى له قبة في سوق عكاظ والذي اشتهر بأنه صاحب أحسن بيت قالته العرب :
فإنك كالليل الذي هو مدركي 
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
كما استحضرت  بدر شاكر السياب في أنشودة المطر
     عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،                                                                       
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
قد يطرح أحدكم ما علاقة النابغة الذبياني وبدر شاكر السياب بإدريس زايدي ؟، إنهم يشتركون في الوجع  وجع النخيل ، النخلة المرأة ، والنخلة الوطن والنخلة الصبر ، والنخلة الولود والنخلة الودود ...
 عتبة الغلاف:
وجه الغلاف لوحة تشكيلية "لنجيب أمين " ترمز إلى الإنسان في بداية الخلق إنها المشيمة بجميع مكوناتها التي غذتها نطفة والخطوط هي حبل الوريد ، هذا الإنسان المحكوم عليه أن يؤطر نفسه داخل منظومة من القيم ، والمبدع الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتفرد بقيمه ، وإن كان للفردانية ضريبة ، وعند الشاعر إدريس زايدي ظهرت هذه الضريبة في " وجع النخيل " وهو الذي يعتبر الشعر فعل التجني .
هذا الوجع يغرف ماءه من دجلة ، ويمطر من غيم الفرات كي يصير عباءة نخيل الأيتام .
ولكن عن أي يتم يتحدث الشاعر ؟ لعله يتم التفرقة والتشرذم والتحول والهدم في جميع المجالات  ...
وإن حملنا الكلمة أكثر مما تتحمل نجده يتم شبيه بالعزوف عن القراءة . نحن – العرب -  أهملنا القراءة فأهملنا التاريخ ، وأسكننا في غياهب الجهل والضعف والقهر والتسلط وقلة الحيلة ...
2/الديوان باعتبار المحتويات المهيمنة :
قد يصعب على القارئ أو المتلقي فهم نصوص الشاعر إدريس زايدي ، خاصة وأنه شاعر أصيل عارف بأصول الشعر القديم ومتشبع بثورة المحدثين ، فجاءت نصوصه بين هذا وذاك دون أن يفقد التركيب متانته والمعجم حسه الشعري والبناء موسيقاه الداخلية والخارجية ...
يستعير خير المعاجم وأروع الصور لينقلنا من الطبيعة " النخيل " ليغوص في انشغالات النص الشعري من حيث أغراضه ، يخز النص رمزا ، ويداعبه بسلاسة ويسر ، لا يسلمك نفسه ، إنه ذلك السهل الممتنع الذي يشدك إليه ، ويدفعك إلى القراءة وإعادة القراءة . تجد نفسك في نصوصه فتتفاعل معه وكأنكما قوتان فاعلتان في نص واحد ، تكتشف إلى جانبه أسرار المعاني المضمرة .
ولنا في قصيدة " حساء " شاهد حي على تفرد الشاعر إدريس زايدي وهو يركب القصيدة العمودية بشموخها وكبريائها ، وخير القصيد ماجاء مصرعا مقفى.
يقول الشاعر  في سمو القوافي :
والقوافي تسامت  كطير الربى                    
منصتا للرياح على أربعه
فالشاعر في هذا البيت شبه القوافي بالطير فوق الربى ، ووجه الشبه الانتصاب والسمو والإحساس بالحرية والانتماء إلى هذا الفضاء الرباني الرحب ، الشعر لا يعترف بالحدود لهذا هو في حاجة الى ضوابط وقواعد أسسها الأقدمون وقعدوها ، وقد نكون من الخائبين إن أهملناها .
إنه اعتزاز بالنفس لقدرتها على النظم ، والنظم هو الكلام الموزون الذي يحول البيت إلى لوحة  تدفع إلى التأمل والتأويل والتحويل . فالناقد المتمرس هو الذي تكون له القدرة على الانطلاق من النص لكشفه ، ولكل قراءته ، وهذا مؤشر من مؤشرات جودة النصوص أي النصوص الحمالة الأوجه .
والقصيدة عند صاحبنا تحن  إلى صاحبها إنها علاقة الألفة والأبوة ...
يقول  الشاعر إدريس زايدي :
كالقصيد يحن إلى صحبه              
قافيات علت في الهوى صومعه
إنه يستمد من القصيدة الإحساس بالرضا ورفعة المنزلة بين النظراء ،
إنه الشموخ في أبهى صوره والاعتزاز في أسمى قدره ، هي صحبة بطعم القوافي .  والقافية خلاف الروي ، الروي حرف ، والقافية حركات وسكنات ، إنه ذلك التناغم الإيقاعي بين الحركات والسكنات الذي انزله الشاعر منزلة الصومعة ، وكأن للقصيدة حرمة تعلو عنان السماء .
والنص في مجمله قصيدة غزلية عفيفة جاد عليها ادريس بلمسته الفنية وإحساسه بالوجع شوقا وحنينا .
يقول ادريس زايدي في قصيدة " حساء " ، ص : 09
شاق ذا القلب نخل ، فما أوجعه            
فيه عاشق يشتكي أدمعه
كل ليل يقول أيا ليتـــــــني           
كنت مثل كمان جفا موقعه
عاشق لان فيه العناق لظــــــى         
مثل عاصف ريح رمى مجمعـــه
الشعر في مفهوم إدريس زايدي هو لغة التجني، الكلوم هي الدافع إلى النظم ، ولكن الغريب هو قدرة الشاعر على الجمع بين الوجع وجمال التعبير ، وروعة الصور ، إنها ثنائية لا تجتمع إلا في الشعر ، فالشعر يؤلف بين ما لا يأتلف وهو يركب الأشطر أو الأسطر ،يبني تارة ويهدم تارة أخرى وكأنه من المخضرمين إن تبقى في هذا الزمان مخضرمون منهم إدريس الذي يرقص رقصة أطلسية على إيقاعات الحرف الذي يحوله إلى طر يضبط به الميزان . فهو الذي يتمنى أن يكون حرفين ، فالحرف الواحد لا يكفيه ليزرع بهما حبا ومهادنة وتسامحا ... ولكن الناس عزفوا عن الحب في عصر العولمة  حتى قال الراوي : " ذروه في سنبله " وإن أردتم  أن تعرفوا من يكون هذا الراوي؟ اسألوا إدريس .
يقول الشاعر إدريس زايدي في قصيدة " ذروه في سنبله " ص : 28
هل لغة التجني ،
ويدي غل لوريدي .
فما أشهى ليت ...
في نظر التمني .
ما أروع أن يجتمع التجني والتمني.ا.ا.ا  هل  هنا استفهامية أم عددية ، ثنائية نطفتها حرف يغل الوريد فيشعر بالضيق فيصرخ قصيدا وهو يشتهي التمني .
فالوباء أشد وأعنف من وهن السنين يتأبط الشاعر عباءة القدر  ينتظر الغد المشرق بعباءة الشعراء . فالشاعر لا ينكسر ،ولاتهده الأيام والسنون ، وإنما مشيئة القدر كقهوة سوداء " بالزهرة المقهى " تأمر بالموت وهنا نجده يخص صديقا هو الشاعر عبد السلام الزيتوني الذي كان يجالسه بالمدينة الجديدة بمكناس ويسمعه بعض النصوص ومن بينها قصيدة بعنوان " كبرياء " استمع إليها وهو في حالة مرضية ألزمته الفراش ووارته دار البقاء، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته .
انه نص يوثق لتلك العلاقة والرفقة الطيبة التي تجمع بين النظراء يستمعون لبعضهم البعض وهم يجودون النصوص ، وينتقدونها نقدا انطباعيا يستمد روحه من الدربة والمعرفة الحقة بأصول بناء القصيدة العربية مبنى ومعنى .
يقول الشاعر إدريس زايدي في قصيدة بعنوان " كبرياء ، ص : 47
أعمق من ذا الوباء
أعنف من وهن السنين
 تساقط ثلج
تناهى العبور
غير صهيل الكبرياء
يسافر محفوفا بألف هلال يلفني
فأمشي .... فارعا في الخصوبة
هذا الضياء
وختاما حسبي أن أقول : لقد وجدت نفسي وأنا أقرأ لإدريس قبل أن أجده كشاعر  عندما يقول
ما أروع الحب حين الشوق يزرعه        
بين الجوانح وقدا هاج مجمعه
محمد الملواني


 

م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق